كورونا تُدخل العالم بسرعة عصر “عن بُعد”
أ. أحمد الطلحي
المصدر: العمق المغربي 15/7/2020
الدراسة عن بعد، العمل عن بعد، الخدمات الإدارية العمومية عن بعد، التسوق عن بعد، الاجتماعات عن بعد، الندوات والمحاضرات عن بعد…
“عن بُعد”، هي العبارة التي انتشرت بشكل واسع خلال الأشهر الأخيرة ولا تزال، بسبب جائحة كورونا-كوفيد 19 وما فرضته من حجر صحي وتباعد اجتماعي، كإجراءات ضرورية لتفادي انتشار هذا الوباء الجديد.
“عن بُعد” هي مجموعة إجراءات وخدمات وأعمال تتم عبر التكنولوجيا الحديثة، أساسا عبر الأنترنيت والأنظمة المعلوماتية، كبديل عن الحضور الجسدي الذي تعذر كثيرا بسبب الجائحة.
الكثير من الدول المتقدمة تكنولوجيا والغنية كانت سباقة لاعتماد هذا النوع من أسلوب العمل قبل الجائحة، ولكن هذه الأخيرة فرضت التعميم بشكل أوسع، وانتشر في كل بقاع العالم بما في ذلك الدول الأقل تقدما والدول الفقيرة.
“عن بُعد”، كان ترفا واختيارا، فصار بسبب الجائحة ضرورة وأمرا إجباريا. فتسارعت الحكومات لوضع قوانين لتنظيم أغلب الأنشطة “عَنًبُعدية”، ورصدت ميزانيات خاصة للرقمنة من أجل إنتاج البرامج والأنظمة المعلوماتية ولتجهيز المصالح الإدارية بالعتاد المعلوماتي اللازم ولتكوين الموظفين وتوعية المواطنين على كيفية استعمال هذه الخدمات.
الرقمنة والأنشطة “عَنًبُعدية” ستستمر وتتسع أكثر وستتطور حتى بعد اجتياز ظروف الجائحة. ويمكن القول أن “عن بُعد” هي من حسنات الجائحة ومن الفوائد الكثيرة التي استفاد منها العالم بسبب الجائحة، والتي سيستفيد منها حتى بعد الجائحة. وللتدليل على بعض من فوائد “عن بُعد” سأتطرق لثلاثة أمثلة، وهي: التعليم عن بعد، والعمل عن بعد، والأنشطة الثقافية عن بعد.
1- التعليم عن بعد:
من خلال التقييم الأولي لتجربة التعليم عن بعد، من قبل الدول المتقدمة وكذلك الدول النامية، تبين أنها لم تكن ناجحة بشكل كبير خلال فترة الحجر الصحي، وذلك للأسباب التالية:
– عدم توفر نسبة من الطلاب على اللوحات الالكترونية أو الحواسيب
– وجود عدد من المناطق الريفية، خصوصا في الدول النامية، غير مغطاة بشبكة الاتصالات
– صعوبة متابعة الدروس بشكل جيد وواضح، بسبب ضعف صبيب الانترنيت الناتج عن الضغط الكبير على الشبكة
– صعوبة تقديم بعض الدروس التي تحتاج للحضور الجسدي مثل: الدروس التطبيقية في المختبرات، والدروس التي تعطى من خلال المعاينة كالدروس الطبية…
– عدم ضمان تركيز الطلاب مع الدروس، لأن في الغالب الأساتذة لا يرون طلابهم، ولا يعرفون حقيقة تفاعلهم مع الدروس
– وبالنسبة لأطوار التعليم ما قبل الجامعي، فالمدرسة تقوم بوظيفة أخرى بالإضافة إلى التعليم هي وظيفة التربية، سواء من قبل الطاقم التربوي أو من قبل الأقران أو ما يسمى بالتربية والتعلم بالنظير
لكن، من خلال هذه التجربة، يمكن للحكومات تغيير سياستها التعليمية مستقبلا، وذلك بإدخال التعلم عن بعد في منهجية التعليم، ولكن بنسب مدروسة، بحيث يمكن مثلا تخصيص ثلث الزمن المدرسي في المتوسط للتعلم عن بعد، وذلك بالتدريج من الطور الأولي إلى العالي. إذ أنه في السنوات الأولى يكون التلميذ طفلا صغيرا، وبالتالي يكون بحاجة للتأطير المباشر أكثر، وكلما زاد سنه اعتمد على نفسه أكثر.
ومن خلال اعتماد التعلم عن بعد سيرتاح الطلاب من كثرة التنقل إلى المدرسة ومن سجن المدرسة (بحسب ما يحسون) لفترات أطول. أما الحكومات فهي أيضا ستربح الكثير، ففي السنوات الأولى يمكنها اقتصاد أجور المدرسين الذين سيقل عددهم، كما سيكون هناك فائضفي الحجرات الدراسيةوالمدارس مما سيغني من تخصيص ميزانيات ضخمة لبنائها وتجهيزها… وهكذا يمكن توجيه ما ادخر من الميزانية الى تكوين المعلمين والرفع من أجورهم وإصلاح البنايات التعليمية وتجهيزها جيدا ومضاعفة ميزانية البحث العلمي…
2- العمل عن بعد:
فوائد العمل من البيت كثيرة سواء بالنسبة للدول أو للأفراد العاملين أولمؤسسات العمل، ويمكن اختصار أهمها في الاتي:
– فوائد اقتصادية: فتقليل حركة تنقل العمال والموظفين، سيؤدي إلى اقتصاد في استهلاك الطاقة وسيسمح بادخار مصاريف التنقل
– فوائد بيئية: تراجع استعمال وسائل النقل سينتج عنه التخفيض من تلوث الهواء الذي يتسبب في التغيرات المناخية
– فوائد صحية: فتلوث الهواءله أضرار كبيرة على الصحة. كما أن التنقل اليومي للعمال يزيد من التوتر مما يكون له نتائج سلبية على صحتهم النفسية. كما سيمكن العمال من ممارسة الرياضة التي أصبحت ضرورية للصحة
– فوائد تربوية: العمل في البيت، سيؤدي إلى توفير الوقت الذي كان يضيع للعمال في التنقل، مما سيسمح بالاهتمام بالأولاد والأسرة أكثر
– فوائد ثقافية: فتوفير وقت التنقل، سيمكن العمال والموظفين من متابعة الدراسة والاستفادة من التكوين المستمر وصقل المواهب والاستفادة من الأنشطة الثقافية…
3- الأنشطة الثقافية عن بعد:
خلال الحجر الصحي، لوحظ كثرة الأنشطة الثقافية التي نظمت عن بعد، والتي لا تزال مستمرة، وأكيد أنها ستستمر، ذلك لأن تنظيمها بهذه الطريقة كانت له إيجابيات كثيرة، تمثلت أساسا في:
– لوحظ أن عدد المستفيدين من المحاضرات والندوات العامة أكبر بكثير من عدد الذين كانوا يحضرون ويتابعونها بشكل مباشر. فعدد الحضور في الغالب الأعم كان في المتوسط لا يتجاوز 100 شخص، بينما عن بعد يتابع هذه الأنشطة مباشرة أضعاف هذا العدد، ويزيد أكثر حينما يستمر نشر التسجيل
– توفير وقت التنقل سمح للناس بمتابعة أكبر عدد من الأنشطة الثقافية، وهذا ما سيكون له فوائد كثيرة على مستواهم المعرفي
– غياب التنقل، شجع المؤطرين على الزيادة في أنشطتهم ومشاركاتهم، كما ساهم ذلك في فسح المجال لأطر جديدة لم تكن تتوفر لها الظروف ولا تعطى لها الفرصة لإبراز مستواها المعرفي ومهاراتها التأطيرية
– كانت هذه الأنشطة تكلف ميزانيات كبيرة، من مصاريف السفر والتنقل وكراء القاعات وتوفير وجبات غذائية أقلها استراحة الشاي، ثم مصاريف المطبوعات والإعلانات… أما عن بعد فلا يكلف الأمر شيئا تقريبا لا بالنسبة للمنظمين والمشاركين ولا بالنسبة للمتابعين
الخلاصة، أن العالم دخل عصر “عن بُعد” بسرعة قياسية وفي ظرف وجيز، أكيد أنه في الأحوال العادية لم يكن ليتحقق ذلك. فكل الحكومات كانت تتغنى بالانتقال الرقمي وبأهميته وضرورته وإيجابياته على كل مناحي الحياة تقريبا، إلا أن ترجمة ذلك إلى قرارات ومشاريع منجزة على أرض الواقع كان يعتريه البطء وأحيانا التخبط والإهمال. والفضل في ذلك يرجع لكورونا، فشكرا لكورونا.