د. محمد هشام اغبالو، أستاذ العلوم الشرعية بمعاهد التعليم العتيق، المغرب.
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ولا حول ولا قوّة إلا بالله ثم أمّا بعد : مقالة تأصيلية حول مشروعية استمرار الحجر الصحي .نعيش نحن المغاربة سؤالا جديا ومحرجا في نفس الوقت حول استمرار الحجر الصحي، وتسأل فئة عريضة عن مشروعية هذا الحجر، وخاصة فيما يتعلق بغلق المساجد وتوقف أداء الجمعة والجماعات، فهل اجتهاد الحكومة في إبقاء الحجر واستمراره لحد الآن مصيب، وأولى من رفعه ؟ أم أن هناك وجهة نظر أخرى تقول بأولوية رفعه وخطإ استمراره ؟ للإجابة على هذا السؤال سندلي بحول الله تعالى بجواب من خلال دراسة تأصيلة مستندة لقواعد النظر الاجتهادي في النوازل .أوّل ما يلزمنا تحديد النازلة ثم تعين الدليل المناسب لها، وبعد ذلك فحص ملاءمة الدليل للمدلول ومطابقته لقوانينه وضوابطه .أمّا النازلة فنقصد بها ما تعيشه معظم الشعوب ومنها الإسلامية من وضع استثنائي بسبب انتشار فيروز كورونا (كوفيد 19) ، وهذا الوضع شهد توقفا تاما لمعظم النشاطات البشرية ، وخاصة الدينية كغلق المساجد، مما أدى إلى تعطيل الجمعة والجماعات، وكذلك توقيف الدراسة و توقيف معظم الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك .وإذا حللنا هذه النازلة فإن أهم عناصرها أوّلا : حدوث وباء عام ، ثانيا : تعطيل أحكام شرعية مثل صلاة الجمعة والجماعات وطلب المعاش ، ثالثا : إلزام المصاب وغير المصاب بنفس الإجراء. هذه هي نازلتنا فما هو الدليل المناسب للحكم عليها ؟من المقطوع به أن الدليل الأول الذي يحتكم إليه المجتهد هو النص الشرعي قرآنا وسنة، فهل نازلة كورونا سنجدها موضوعا للنص الشرعي ؟ بما أن هذا الوضع مستجد فإننا قطعا لن نجده جزئية موضوعة للنص الشرعي سواء أكان قرآنا أم سنة ، ولكن هذا لا يعني أننا سنتجاوز النص لأوّل وهلة بل يمكن أن نقوم بمحاولة تأويلية مقبولة في النظر الاستدلالي، وتلك المحاولة إما أن نلحق فيها هذه الجزئية بجزئية تجتمع معها في العلة، وهذا ما يسمى بالقياس، وإما أن نلحقها بمجموعة من الجزئيات تمثل حكما كليا .أمّا الطريقة الأولى وهي الحكم على نازلتنا عن طريق القياس فمتعذرة ، نظرا لأن معظم ما وقفت عليه من جزئيات في القرآن الكريم هي من قبيل الرخص مثل أكل الميتة عند الاضطرار إليها حال المخمصة ، وتغيير هيئة الصلاة عند الخوف من العدو، والنطق بكلمة الكفر عند الإكراه على الموت ونحوه، والفطر في رمضان بسبب المرض ، وحلق المحرم رأسه إذا كان مريضا أو به أذى من رأسه، و إعفاء الضعفاء والمرضى والمعدمين من الغزو .ونحن وإن وافقنا رأي من يجري القياس على الرخص، فلا يتأتى لنا إجراؤه في نازلتنا، لأنها تتوفر على عنصر لا يوجد في هذه النصوص، وهي إلزام الصحيح والمعافى بمثل ما يلزم المريض ولهذا يتعذر القياس الجزئي .أمّا الطريقة الثانيةوهي أن نخرج من النظر في هذه النازلة بكونها جزئية مشخصة، إلى كونها قضية كلية: فللوصول إلى هذا التجريد، نبدل القضية الجزئية بقضية كلية، فنبدل موضوع القضية: كورونا بما هو أعم منها ، ولا شك أن كورنا من جنس المضار والمهالك والمفاسد فهي من باب المضار، فنستعيض عنها بلفظ كلي الذي هو الضرر العام. وأما محمول القضية فهو تعطيل المساجد والأنشطة الاقتصادية (ولا نتكلم هنا إلا على النشاط الذي ينبغي على المكلف أن يقوم به)، فيمكن لنا أن نستعيض عنه بما هو أعم منه وهو مناقضة الحكم الشرعي وتعطيله. فنخلص بقضية صيغتها :”حصول ضرر عام تعطّلت معه الأحكام الشرعية”. إلى حد الآن استطعنا أن نخرج من موضوع جزئي وشخصي إلى كلي عام ، والدليل الذي يتلاءم مع هذا الإجراء يسمى دليل المصلحة المرسلة، وبما أنه دليل مختلف فيه، أجعله بعد الدليل المتفق عليه وهو دليل الاستصحاب، إذ أوضح الأدلة الممكنة وأقربها في الحكم على هذه النازلة، هما دليلا الاستصحاب والمصلحة المرسلة .الدليل الأوّل : الاستصحاب .قال الرازي رحمه الله : “وأيضا فالفقهاء بأسرهم على كثرة اختلافهم اتفقوا على أنّا متى تيقنا حصول شيئ وشككنا في حدوث المزيل أخذنا بالمتيقن. وهذا عين الاستصحاب لأنهم رجحوا بقاء الباقي على حدوث الحادث” .وكيفية تنزيل هذا الدليل على نازلة كورونا هو أن نعتبر وضع البشرية قبل الوباء، فنجد الناس لا يحصل لهم أي ضرر ولا مرض ولا موت بسبب اجتماعهم في كل مايستدعي الاجتماع، سواء في المساجد أو الأسواق أو المجمعات الصناعية والتجارية ، فنستصحب حكم الاجتماع سواء أكان واجبا كالجمعة أو فرض كفاية كالجماعات أو مأذونا فيه كالاجتماع لطلب الرزق وجوبا و ندبا و إباحة إلى وقت حصول الوباء، فننظر ماذا أحدث هذا الوباء من الضرر وماذا طرأ على البشرية من عوارض. فإن اتفق أهل النظر على أن هذا الوباء أحدث ضررا في الأنفس بالموت والمرض الذي يضر بالبدن ، وأن سبب هذا الانتشار هو المخالطة والاجتماع والتلاقي ، وأن هذا الحدوث قطعي ولا مجال لإنكاره ، فإن المجتهد يحكم على جهة القطع، بإلغاء حكم الوضع الأول من حكم الاجتماع وجوبا وندبا وإباحة إلى العمل بمقتضى الوضع الثاني، فيحرم الاجتماع والتلاقي حتى يرفع الضرر .لكن لو أن هذا الوباء انتشر و لم يحدث قتلا أو مرضا أو أي نوع من الضرر الذي لا يستحمل، أو أحدث مرضا أو ضررا خفيفين، كانا مما يستحمله الناس في الوضع الأوّل أو كان معتادا في أحوالهم أن يصابوا به، فإن الحكم هنا للوضع الأول، ما دام أن الفارق بين الوضعين هو سرعة انتشار وباء فقط دون وجود آثار لا يستلزم معها تغير الحكم .وأمّا الافتراض الثالث ـ ولعله هو حالة الوباء في بلدنا ـ فهو أن تتضارب المؤشرات وتختلط العلامات ويخفى مآل الوباء، فهنا يتردد الاجتهاد بين العمل على مقتضى الوضع الأول، اعتبارا بكونه واقعا ومتحققا ،وبين العمل على مقتضى الوضع الثاني احتياطا للأسوأ ودفعا للمخاطر المتوقعة إلى غير ذلك مما يستدعي التأهب مع أخذ الحذر .وبما أن النظر الاجتهادي عندنا في المملكة المغربية أخذ بمقتضى الوضع الثاني فإنه وإن كان اجتهادا موفقا ابتداء، والدولة مشكورة على تحمل آثاره ولو كانت قاسية، فإننا لا نوافق على استمرار هذا الاجتهاد وجعله أولى من الوضع الأول وذلك طبقا لموجب قوانين الاستصحاب، منها :أوّلا : أن العمل بمقتضى الوضع الثاني صار من باب الاعتماد على العلامة الخفية التي ينتج عنها الاحتمال الضعيف و التخوف الزائد، بل ربما الشك والتوهم. وذلك لما نراه من انتشار الوباء دون أن يحدث قتلا أو مرضا أو الما لا يطاق، أو كل ما يستدعي إبقاء الحجر الصحي، بل حتى ما نراه من عدد الموتى، فإنه مقارنة بأنواع العدوى الأخرى يكون أقل من المعتاد .ثانيا: أن العمل على وفق الوضع الثاني أحدث وضعا ثالثا، مما يستدعي على الأرجح الرجوع إلى الوضع الأوّل. ويتمثل الوضع الثالث في ما لحق المجتمع المغربي بأكمله من أضرار دينية وصحية واقتصادية على مستوى الفرد والدولة ، أما الضرر الديني فما حدث بسبب التوقف عن أداء الشعائر الدينية على مستوى الجمعة والجماعة، التي لا تخفى مقاصدها على كل مسلم، حيث حصل انحسار في التدين وانقطاع في تزكية الأنفس وتعليم الكتاب والحكمة، الذي كان زادا متواصلا للفرد المسلم يوميا وأسبوعيا. زد على ما يحدث من استمرار غلق المساجد من إضعاف هيبة الدين في قلوب المسلمين، وحصول تراخي وتكاسل في الاستجابة للمطالب الشرعية، مع ما يلزم هذا الإغلاق من توقف حكم شرعي هم مطالبون بأدائه على جهة القطع .وأما على مستوى الاقتصاد فلا يخفى على كل مطلع ما نعيشه من أزمات اقتصادية ضربت جميع الأنشطة الاقتصادية وعلى جميع المستويات، ابتداء من أبسط نشاط فردي حر إلى أعلى نشاط على مستوى الدولة زيادة على ما أحدثه من وضعية مزرية للطبقة الكادحة والفقيرة، وكذلك ما أحدثه في الطبقة المتوسطة من إنهاك وإضعاف، حتى بات لحوقها بالطبقة الأدنى وشيكا. بل إن كثيرا من الأفراد أفلسوا بسبب توقف نشاطهم الاقتصادي. والداهية العظمى ما غرقت فيه الدولة من مديونية لا ندري آثارها ولا ما ستحدثه من عقبات أمام التقدم والنمو، والاستقرار.وأما على مستوى الفرد، فقد أحدث هذا الحصار قلقا نفسيا وتوترا لدى كثير من الناس بسبب ما يعانون من مشاكل ناجمة عن توقف الحياة العادية، زيادة على ما يحدثه الإعلام من تخويف وتهويل ، زيادة على ما يسببه التعسف في تنزيل أحكام الطوارئ، حيث كثير من الأفراد مرض أقاربهم وحرموا من زيارتهم حتى ماتوا وكم من ميت منع من الصلاة عليه، وكم طال فصل ما بين الأبناء والآباء ،وما بين الأزواج وزوجاتهم، حتى حدثت مشاكل لم يستطيعوا تفاديها ، وكذلك أيضا ما أحدثه توقف التعليم من ضعف شديد في التكوين لدى معظم أبناء المجتمع، وخاصة التعليم العمومي، حيث لم يستطع التعليم عن بعد أن يفي بالغاية المرجوة، نظرا للضعف المادي الحاصل لدى جل أبناء المجتمع، ونظرا لعدم قدرة الوزارة على الوفاء بمتطلبات هذه الوسيلة على الوجه الأفضل، ونظرا لعدم الرغبة لدى التلاميذ في التمدرس، وعدم الجدية من معظم الآباء، ولغيرها من الأسباب، اجتمعت فأنتجت حصيلة هزيلة جدا سيظهر اثرها المحقق في السنوات القادمة .فكل هذه المشاكل والظواهر الأليمة أحدثت وضعا ثالثا، استدعى النظر الاجتهادي تغيير الحكم والرجوع إلى العمل بمقتضى الوضع الأوّل ، أو نقول استدعى النظر الاجتهادي العمل على حسب متطلبات الوضع الثالث، مما يلغى معه العمل على حساب الوضع الثاني. الدليل الثاني المصلحة المرسلةلا شك أن المصلحة إن كان لها شاهد من الشرع بالاعتبار، سواء ثبتت بالنص أو الإجماع أو الاستنباط، فهي جزء من دليل معتبر الذي هو القياس. وإن كانت ملغاة في نظر الشرع سقط الالتفات إليها واعتبارها. لكن الإشكال إذا كانت المصلحة مرسلة عن الاعتبار والإلغاء أو مركبة منهما، بأن يوجد في النازلة مصلحة معتبرة قطعا ومصلحة ملغية قطعا كقضيتنا، بحيث إننا حجرنا على المريض حضور الجمعة وغيرها ومنعناه من طلب المعاش ومن كل اجتماع ، وهذه مصلحة معتبرة.وحجرنا على الصحيح كذلك وهي مصلحة ملغية، لكن لما كان القصد هو تحقيق مصلحة أخرى وهي منع انتشار العدوى واستفحال الوباء، لزم بالضرورة أن نعم الجميع بالحجر حتى تتحقق المصلحة وهي التحكم في الوباء وانحساره .وهذه هي التي تسمى بالمصلحة المرسلة، وبما أنها مركبة من مصلحتين إحداهما معتبرة وأخرى ملغية، اختلف فيها الأصوليون فقال بها الإمام مالك ومنعها آخرون، إلا أن الإمام الغزالي توسّط وقال بالمصلحة المرسلة بشروط ثلاثة: أن تكون كلية وقطعية وضرورية ،لماذا هذه الشروط ؟ لأن المصلحة المرسلة غالبا ما تناقض حكما قطعيا، ولهذا لا يمكن فتح الباب لإيقاف أحكام الشريعة بمصالح حاجية وأحرى تحسينية، وبمصلحة شخصية غير عامة، وبمصلحة محتملة غير قطعية. وعليه فالمجتهد حينما يخرج عن النص أو الإجماع ويعمل بالمصلحة في نازلتنا، لا بد وأن يكون الوضع قد بلغ بالمكلف إلى حد الضرورة ، وأن تكون واقعة على جهة القطع ، وأن تكون كلية عامة لا خاصّة.وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل وضع كورونا كلي عام يحق أن نجعل وضعه على مستوى واحد ؟ أم أن هناك فرقا بين الدول الموبوءة مثل الصين وإيطاليا وبين غيرها؟ وكيف يتعامل النظر الفقهي مع اختلاف مستويات الوباء مقارنة بالدول في ما بينها ؟ فهل يحكم المجتهد في دولة انتشر فيها الوباء بحدة كإيطاليا وإيران بمثل ما يحكم به في دولة لا تجاوز نسبة العدوى فيها العشرات فقط كدولة موريطانيا ؟ وهل عدد ما يموت به الناس بمرض كورونا خارج عن حد الاعتياد، مقارنة بينه وبين ما يموت به الناس من أمراض أخرى كالزكام و الأمراض المزمنة ؟ ثم كيف يتم النظر الاجتهادي في ما استجد مع وضع كورونا مع غياب المعلومة الضرورية من لدن علماء وخبراء مسلمين محل ثقة واطمئنان عند أهل الاجتهاد ؟ ولما كانت معظم المعطيات مصدرها منظمة الصحة العالمية، فإنه يرد عليه سؤال المصداقية: هل هي منظمة حيادية أم مسيسة ؟ نظرا لوجود اتهامات متبادلة بين الدول الكبرى حول قراراتها ، إلى غير ذلك من الأسئلة التي ترجع إلى كشف الحالة والوضع كشفا بينا، يطمئن المجتهد بها لإصدار أحكامه واجتهاداته.وبما أن هذه المقالة خاصة بوضع المغرب فإننا سنحاول كشف ملاءمة هذه الشروط للوضع الوبائي بالمغرب، لنرى صحة استعمال هذه الدليل من عدمها .أمّا الشرط الكلي فهو متحقق لا شك فيه وذلك لما نراه حسب معطيات وزارة الصحة من وجود الوباء في مناطق متعددة وكثيرة ،وأن الوباء طال جميع التجمعات البشرية.نعم هناك جهات لم تصب تماما كان بالضرورة أن تخص بأحكام استثنائية، كما خصت باستثناء عدم وجود العدوى .أمّا الشرط الثاني وهي أن تكون قطعية فهذا لم يتحقق، وذلك لعدم توصّل الخبراء من علماء الأوبئة وعلماء الصحّة إلى أي نتائج قطعية ،نظرا لكون سبب الوباء غير معهود لدى البشرية، ونظرا لعدم وجود المعلومة الكافية عنه، ونظرا لغياب التعاون الدّولي في الكشف عن حقيقة هذا الوباء ،ونظرا أيضا لضعف وتأخر البحث العلمي عندنا مقارنة بالدول المتقدمة.ولهذا فمعظم المعلومات المتعلقة بوباء كورونا لم ترق إلى مستوى القطع، بدليل أن منظمة الصحة العالمية نفسها أعطت تعليمات بناء على معلومات تبين خطؤها بعد .أمّا الشرط الثالث وهو أن تكون المصلحة ضرورية فهذا لم يتحقق أيضا في بلادنا، فالوباء في المغرب لم يحصد أرواحا كثيرة، ولم يكن هو السبب الوحيد في وجود ضحايا. بل معظم من مات بكورورنا قامت به أسباب أخرى كعامل السن أو وجود أمراض مزمنة، هذا إذا قلنا بأن الضرورة هنا حفظ الأرواح ، وأما دونها من الأمراض التي لا تستحمل، فلحد الآن لم نر الوباء أحدث أمراضا مزمنة أو تشوهات أو أضر بالأبدان ضررا لا يستطاع تحمله ، بل ما نراه في معظم المصابين هي عوارض خفيفة، إلى حد أنه لا يفرق بين المصاب وغيره إلا بالكشف المخبري ،مما يدل على خفاء العوارض الصحية وبساطتها أو كونها، مما تتحمل عادة .وكما قلنا في الدليل الأوّل بأن الهيئة الشرعية حينما أفتت بالحجر الصحي كانت وجيهة في حكمها، إلا أن استمرارها غير مقبول ،فكذلك نقول هنا إذا كانت الهيئة الشرعية أفتت في أوّل أيام الوباء بالحجر الصحي وأغلقت المساجد ومنعت الناس طلب المعاش نظرا لتنزيل المحتمل منزلة الواقع وتنزيل غير القطعي منزلة القطعي، والاحتياط للأنفس نظرا لما هو عليه الوضع في دول أخرى، فإننا لا نوافقها على استمرار الحجر لحد الآن لهذه الأسباب: أوّلا : أن الوباء لا يتعلق بشيء من الضروريات أما العدد الذي مات بسببه فهو لم يخرج عن حد الاعتياد، هذا إن ثبت أنه سبب كاف بنفسه لقتل النفس ،وكيف والأمر فيه احتمال.وعليه فإن المدة التي تتراوح ما بين شهر إلى أربعة أشهر ويموت فيها عدد لا يزيد على مائتين وخمسين مقارنة بين ما يموت به الناس بسبب أمراض أخرى، لا نجده خارجا عن حد المعتاد. بل إننا إذا جمعنا عدد الوفيات كلها في المغرب مدة هذه الأشهر نجدها لم تخرج عن حد الاعتياد، ومادام الأمر على هذه الحالة، فينبغي أن تكون الأحكام الشرعية مناسبة للحالة الاعتيادية .ثانيا : أننا لو أبقينا العمل بالاحتمال فإنه سيطول الوضع وسيخرج بنا إلى ضرورات وأنواع من الحرج لا يمكن تحملها، مما يسدعي النظر المصلحي أيضا أن يتغير الحكم نظرا لتغير المصلحة .ثالثا : أن الحكم الاجتهادي الذي يوقف النص القطعي ينبغي أن ترقى أسبابه إلى القطع أو تقارب أما إذا كانت في مستوى الاحتمال فعند ذلك نرجح الضعيف على القوي دون موجب مما يفتح الباب لفتاوى تتساهل في القطعيات وتهدم النصوص بدعوى المصلحة وهذا من أعظم الفساد في الاستدلال الشرعي.وأخيرا نقول هذا رأي اجتهادي ندعي فيه أنه أولى من غيره، ويمكن أن يكون للرأي المخالف له، نصيب من الصواب. ولهذا تفاديا لما يحتمل من أسوإ الحالات أن يؤخذ بالرأي المخالف ويعمل به كما عمل بالرأي الآخر. وهكذا حتى يتبين مسار الوباء وتتضح خريطته ويحصل التعامل معه، إلى أن يصير أمرا معتادا أو يأذن الله بزواله ورفعه. والله سبحانه أعلم.وأحكم. وكتب عبد ربه تعالى محمد هشام اغبالو بطنجة الغراء شمال المملكة المغربية بتاريخ 2020_ 6 _ 29 الموافق 1441_ 11 _ 8 هـ.