الحركة الإسلامية بين الدين الشرعي والدين الوضعي (2)
بينت في الحلقة الماضية ما أقصده بالدين الشرعي وبالدين الوضعي، وأن الدين الوضعي هو كل ما يعتقد دينا ويتخذ دينا وهو ليس من الدين الحق في شيء، وأنه هو مجموعة الأفكار والتصورات والنظم المعتمدة لدى جماعة من الجماعات، إذا كانت تضعها موضع الثبات والتسليم وموضع التعظيم والتقديم ، وتجعلها غير قابلة للنقد والمراجعة والتغيير. فكل جماعة كانت متصفة بهذه الصفة أو تلك، فقد صار عندها دين وضعي ، بالإضافة إلى دينها الشرعي، والذي هو دين الله المنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم.وقد آن الأوان لكي أوضح ذلك وأمثل له.
قضية الخطوط الحمراء
كثيرا ما نجد بعض التنظيمات الإسلامية تتخذ لنفسها ما تعتبره أو ما تسميه بالخطوط الحمراء، وهي عادة ما تكون خطوطا سياسية، يقصد بها محظورات سياسية تحرم الجماعة على نفسها انتهاكها أو تجاوزها. فتصبح عندها محرمات سياسية، بل إن هذه “المحرمات” تعد من الكبائر التي لا تساهل فيها ولا تسامح. والخطير في هذه الخطوط الحمراء ليس هو أن تصبح من الأركان والثوابت التي لا تقبل المراجعة، بل أيضا هو أن يحل هذا المصطلح الدخيل لفظا ومعنى، الذي ليس له من مرجعية سوى النظر الفكري المحض والتقدير السياسي الظرفي، وأن يحل محل المصطلحات الشرعية بمضامينها وبمرجعيتها. وهكذا بدل أن يفكر الناس بمنطق الحلال والحرام، وبمنطق “قال الله” و”قال رسول الله” وبمنطق الموافقة والمخالفة لشرع الله، يصبح تفكيرهم محكوما بمنطق الخطوط الحمراء والخضراء، وبمرجعيتها السياسية وبواعثها النفسية. وهكذا، فإن من يكرهون السياسة والسياسيين يجعلون العمل السياسي خطأ أحمر، ومن يكرهون الحاكم وبطانته يجعلون من الاقتراب إليه، أو التعاون معه، أو الاتصال به، أو بذكره بخير إذا أحسن، أو وصفه بالإيمان والإسلام إذا كان كذلك، يجعلون هذا كله خطوطا حمراء، يكون انتهاكها مدعاة لأنواع من الاتهام والطعن والتجريح والتجريم … تكفير الأنظمة والهيئات
ومما يتخذه الكثيرون دينا، وما هو من الدين في شيء، بدعة تكفير الأنظمة الحاكمة، والهيئات السياسية كالأحزاب وغيرها، فيقولون: النظام الفلاني كافر، والحزب الفلاني كافر … ثم يرتبون على ذلك مجموعة من الأحكام والمواقف … والذي نعرفه في ديننا وشرعنا أن الإيمان والكفر هي مسألة تخص الأفراد. فالفرد بقلبه واعتقاده يكون مؤمنا أو كافرا، مشركا أو منافقا … وإذا كان هناك مجموعة أفراد على اعتقاد واحد، فهو مؤمنون أو كفار، أو مشركون، أو منافقون. أما تكفير نظام حاكم، أو حزب سياسي برمته، فإذا أريد به الشخصية المعنوية، ليس لها قلب ولا اعتقاد ولا إيمان ولا كفر. وإذا أريد به مجموع الأفراد المنتسبين والعاملين في هذا النظام أو الحزب، فيجب التأكد مما إن كانوا كلهم كافرين. والحال أن الأنظمة والأحزاب في البلدان الإسلامية يستحيل أن يكون كل أعضائها والمنسوبين إليها كفارا. بل الكفار فيها إن وجدوا يكونون قلة قليلة، خاصة في عامة أعضائها والعاملين فيها والتابعين لها. وإذا كان تكفير الهيئات والأنظمة متجها إلى أفعالها وممارساتها وقوانينها، فهذا يقتضي أولا التحقق علميا مما إذا كان شيء من ذلك كفرا، وثانيا إنما يكفر به من تبناه وآمن به. فقد يوجد عدد كبير ممن لا دلو لهم في ذلك، أو ممن يكرهونه أو ينكرونه ظاهرا أو باطنا … نعم يمكن وصف النظام والدولة والهيئة والمؤسسة بأنها إسلامية أو غير أسلامية، لأن الوصف هنا لا يتعلق بالاعتقاد والقلوب، وإنما يتعلق بالأفعال والنظم والمظاهر. وحتى في هذه الحالة قد يكون في الهيئة الإسلامية كافر أو كفار، وقد يكون في الهيئة غير الإسلامية مؤمنون مسلمون.
الحظر على العمل السياسي
هذا أيضا من المحرمات الثابتة عند عدد من الدعاة ومن الجماعات الإسلامية، فهو خط آخر من خطوطهم الحمراء، وإنما أسمي ذلك تحريما لأنه صار عندهم محظورا ممنوعا، بصفة دائمة أو إلى أجل غير مسمى. ومن مشمولات هذا الحظر ومقتضياته، تحريم تأسيس الأحزاب السياسية، وتحريم دخول البرلمانات، وتحريم المشاركة في الحكومات. وكل هذه المحظورات يعتبرها بعضهم محرمات لذاتها ولما فيها من كفريات وبعضهم يراها محرمة ومنقصة في الدين وانحرافا عن طريق الدعوة الصحيح، لما في ذلك من مفاسد ومن انشغال بالسياسة على حساب الدعوة … وبعضهم يستدل في هذا الباب بقاعدة “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح” وبعضهم يستدل بقوله تعالى: “ولا تركنوا إلى الذين ظلموا”. والحقيقة أن هذه التحريمات والمستندات المعتمدة فيها إنما فهم للأمور على غير وجهها واستعمال للأدلة في غير مواضعها. فالذي يدخل إلى مؤسسات فاسدة، أو منحرفة، أو مختلطة، أو يختلط فيها الحق بالباطل والصالح بالطالح، لكنه يدخل ليأمر بالمعروف ما أمكن، وينهي عن المنكر ما استطاع، ويحق من الحق ويبطل من الباطل قليلا وكثيرا، وليكثر المصالح ويقلل المفاسد… فهذا مجاهد وقائم بالواجبات لا أنه واقع في المحرمات. وإنما يحاسب المرء بقصده وفعله لا بأفعال غيره ممن حوله، ما دام كل ما يعمل على شاكلته. بل إن الذي يقول كلمة حق ويرد على كلمة باطل وهو في مثل هذه المواطن لهو خير وأعظم أجرا ممن يقولها في المسجد، أو في مجلس علم، أو مجلس وعظ، أو في بيته أو في كتابه. وقد يذهب بعض الدعاة إلى الكنيسة، أو إلى الخمارة، أو إلى نادي القمار، أو إلى مقر جماعة لا دينية، أو إلى غير ذلك من الأماكن والمواطن التي تعج بالمنكرات والانحرافات، يذهبون للدعوة إلى الله والجدال بالتي هي أحسن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء استجيب لهم أو لم يستجب لهم. فكيف يجوز الأمر هنا ويستحب ويمجد، ويكون هناك خطأ أحمر لا يجوز الوقوع فيه ؟! أليس هذا التناقض مجرد مظهر من مظاهر الاحتكام تارة إلى الدين الشرعي وتارة إلى الدين الوضعي. إن التحريم هو أخص خصائص الله تعالى في التشريع، لأنه تضييق على العباد وتقييد لتصرفاتهم وإلغاء لحريتهم. هذا حين يكون التحريم حقا وصوابا، أما حين يكون تحريما بغير حق وبغير دليل، فهو ظلم للعباد وإفساد لحياتهم. وكل هذا في حق العباد وشؤونهم. أما التحريم في مجال الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدفاع عن دين الله وشرعه، فهو تضييق ليس على العباد وحقوقهم، وإنما هو تضييق على دين الله ودعوته، في الوقت الذي تعاني فيه الدعوة من التضييق والحصار في كل مكان. فلينظر هواة التحريم ودعاة الخطوط الحمراء أي منزلق ينزلقون، وأي منقلب ينقلبون.